«توك شو»: عندما تطير الكراسي فوق الرؤوس

                                              صراع بالكراسي في برنامج {بموضوعية}!

عرف العالم العربي برامج الـ «توك شو» السياسي مع بدء البث الفضائي، إذ لا يعتدّ بالبرامج الحوارية في ظل الأنظمة الإعلامية الرسميّة، أو في ظل المحليّة البحتة. ومع أن لبنان كان سباقاً بهذه البرامج التي انطلقت في أوائل التسعينات، إلا أن قناة الجزيرة افتتحت مع نهايات القرن العشرين مرحلة جديدة، أكسبت برامج الـ «توك شو» جمهوراً متابعاً وواسعاً نسبياً. في الآونة الأخيرة، شهدت هذه البرامج، وعلى مختلف الشاشات العربية، سقطات حرفتها عن غايتها وباتت تشكل ظاهرة مخيفة.

كرس الـ«توك شو» السياسي «نجوماً» إعلاميين على غرار برامج المواهب الفنية، فاقتصرت نجوميتهم على هذا الميدان حصراً. في المقابل، صنع نجوماً من السياسيين على قياس هذه البرامج، يتضح من حركتهم وتنقلهم الدوري بين الشاشات كأن هذه الأخيرة تستقطبهم تقديراً لـ«كفاءاتهم» في رفع نسبة المشاهدة.

بعد الذي ظهر على الشاشة الاردنية سألت القبس بعض مقدمي برامج الـ«توك شو» عن آرائهم في ما يحدث. وتوجهت ايضا الى اختصاصي في الاعلام وعلم النفس.



انعكاس للواقع

شهدت إحدى حلقات «بموضوعية»، الذي يقدمه الاعلامي وليد عبود معركة حقيقية بين ضيفين، تخللها تطاير الكراسي فوق الرؤوس وتراشق بأكواب المياه التي صارت السلاح الأخف في عدة الحوار، مما اضطر المحطة الى قطع البث قبل نهاية الحلقة.

يرد عبود أسباب ما حصل الى أن برامج التوك شو السياسي تعكس واقعاً يعيشه العالم العربي، الذي كان محروماً من قدر كبير من الديموقراطية ومن تظهير الرأي والرأي الآخر. الرأي الوحيد كان للحزب الحاكم الذي ألغى اي حوار عميق ومجد. «أتى الربيع العربي وكسر الجدار الحديدي وفتح سبل الحوار». من الطبيعي اذا أن تأخذ هذه النقاشات الحدّة التي نراها في البرامج الحوارية. فالنقاش لا يتمحور على نسبة اقتطاع الضمان الاجتماعي او على سن التقاعد: «نحن نناقش أوضاعاً مصيرية وقضايا أساسية وجوهرية تتعلق بالبنى الأساسية الموجودة في أنظمتنا، وهذا ما يستدعي أحياناً المشاجرات».

مقدم برنامج «بموضوعية» لا يزال متمسكاً بموضوعيته من خلال طرح المواضيع وطريقة مقاربتها: «أدير النقاش واذا ذهب باتجاه معين من السخونة والحدة أحاول تدوير زوايا الحوار، ولكن احياناً تفاصيل الحوار تسبق موضوع الحلقة».



ساعة حرة

لا ينكر الاعلامي عماد مرمل مقدم برنامج «ساعة حرة» على قناة المنار اللبنانية أن بعض الصراخ أو الصخب يفيد، شرط عدم المبالغة. مرمل تعرض لموقف محرج في إحدى حلقات برنامجه حيث كال أحد الضيفين الشتائم للآخر محاولاً ضربه: «ما يحصل داخل الاستديو من تدافع وتضارب هي لحظة الذروة. الانانية، تحمل الاعلامي على إرواء غريزته الاعلامية. وهذه تحصل في حالات استثنائية وليست نمطاً. لن أكون ملائكياً أو مثالياً ولا أدعي أنني «زعلان». الغريزة الإعلامية تميل الى هذه اللحظات. اما من الناحية الوطنية والاخلاقية فهذا يزيد الاحتقان وينزل بالوعي نحو الانحدار».

يرى مرمل أن الحيوية ضرورية لاسيما متى كنّا أمام رأيين. فطريقة التعبير هي من شروط الاستقطاب والجاذبية: «أيا تكن قيمة الفكرة اذا كان التعبير عنها بأسلوب روتيني ممل لن تجذب الاصغاء اليها. اما في مواجهة ضيف واحد فألعب دور محامي الشيطان ليفرغ ما في جعبته».



حديقة حيوان بربطات عنق

نديم محسن، أستاذ الفلسفة والحضارات في الجامعة اللبنانية الأميركية يرى أن كلمة «توك شو» تعبّر خير تعبير عن مضمون معظم هذه البرامج المصنّفة حواريّة. فهي أوّلاً وأخيراً «شو» Show! أي أنّها عرض، بل استعراض ولكن لمقولات ممجوجة محفوظة ومسموعة: «فما أن يطرح المقدِّم سؤالاً على ضيف ما حتّى يمكننا نحن المشاهدين أن نُجيب عوضاً عن الضيف مسبقاً». حتّى البرامج ذات الإيقاع الهادئ، نادراً ما تكون حواريّة بنّاءة، أي نادراً ما يتوخّى المقدِّم والمتحاورون منها بالأساس نقاشاً منطقياً منتجاً يصل إلى تذليل عقبات والبحث عن حقيقة ما».

ليس الاستديو الذي يشهد صراخاً وتضارباً إلاّ ساحة اقتتال مصغّرة، وحرب شوارع أسلحتها الحناجر والقبضات وذخيرتها البذاءة والوضاعة. إنّها الدليل المباشر، المرئيّ-المسموع، على أنّ الانحطاط السياسيّ والفكريّ والأخلاقيّ يضرب المجتمع على المستويات كلّها، بدءاً من بعض أولئك الذين يتعاملون مع أنفسهم وبعضهم كأسياد سياسة وفكر. ويقول محسن: «ان العنف أينما ظهر حالة مرضيّة بامتياز، والتضارب دليل حضور «الزوولوجيّة» (حديقة حيوانات) خلف ربطات العنق!».

هل يمكن لقلّة التهذيب وجهل أصول الحوار وغايته أن تكون ابتهاجاً لخلخلة آلات القمع السياسيّة السابقة واحتفالاً بعهد جديد؟

محسن يجيب: «هي ليست أكثر من تعريف بالجلاّد المستقبليّ! أمّا اعتبار العنف تعبيراً عن حرية مستحدَثة، فما أنعمت علينا به هذه المرحلة البائسة التي تشهد إسقاط الأنظمة الوحشيّة وسلطانها واستبدالها بالميليشيات الهمجيّة وفوضاها، حيث بات شواء الرؤوس المذبوحة بشيراً للعدل الموعود».



ثنائية قاتلة

ضيوف هذه البرامج معروفون: حفنة من الأفراد، في غالبيّتهم الساحقة ذكور، تتداورهم البرامج ليقولوا الشيء ذاته. إضافة إلى ذلك، «لا مكان للرأي الثالث والرابع والخامس. وإنّما ثنائيّة قاتلة»، يقول محسن. في المسألة اللبنانيّة، مثلاً، ينحصر حضور معظم الضيوف في 8 و14 آذار. وفي المسألة السورية، يقتصر على المستشرسين مع النظام أو ضدّه. وفي المسألة الفلسطينيّة، يدور في حلقة مفرغة: إمّا فتح أو حماس. «هكذا يختصر الإعلامُ الحضورَ الفكريّ والسياسيّ والثقافيّ للاوطان بحفنة من هنا وهناك، فيساهم في تضييق الخيارات وحصرها».

ثم ان بعض الجماهير تهوى حلبات المصارعة والملاكمة، وبعض البرامج تقدّم تلك الحلبات سياسياً! طبيعة الإنسان البيولوجيّة تستدرجه إلى العنف المتأصّل فيه. «وفي هذا إشارة من إشارات السقوط الحضاريّ»، يرى محسن من الناحية النفسية.

القبس
هل اعجبك هذا الموضوع ؟

لا يوجد تعليقات حتى الأن

إرسال تعليق