ما صلة جزر المالديف بالأزمة بين دول مجلس التعاون الخليجي


ما صلة المالديف بالأزمة بين دول مجلس التعاون الخليجي، وما أثر قطع المالديف علاقتها الديبلوماسية بقطر على مجرى هذه الأزمة المتصاعدة؟


12821398_10208485319192436_7109474348993658676_n



بطبيعة الحال، بعيداً عن هذا الأرخبيل، الناس غير مضطرة للإطلاع على أوضاعه الداخلية وسياساته تجاه الأبعدين والأقربين، بما في ذلك الذين أمضوا أياماً في إحدى الجزر بالمالديف، فهؤلاء لا يكادون يصلون إلى الجزيرة/ مطار المحاذية للعاصمة "ماليه"، حتى ينتقلوا، سواء بالزوارق أو باليخوت أو بالطائرات المائية إلى عالم المنتجعات.
ما فاتهم أن عالم المنتجعات هذا مفصول إلى حد كبير عن حياة الثلاثمئة وخمسين ألف مالديفيّ، لا سيّما أنّ العدد الأكبر لمن يعملون ويخدمون في هذه المنتجعات قادم من الهند وسري لانكا والفيليبين. وأنّ هؤلاء المالديفيين الذين لا يرونهم يشكّلون دولة أمّة بكل ما للكلمة من معنى.

بحثاً عن مالديف المالديفيين... والرحّالين القدامى

بعيداً عن عالم المنتجعات هذا، أتيح لكاتب هذه السطور أن يقيم في العاصمة "ماليه"، التي يسكن فيها مائة ألف نسمة في مساحة قدرها كيلومتران طولاً وكليومتر عرضاً، وهي أعلى نسبة كثافة سكانية في العالم، لينتقل بعدها إلى جزيرة أومادو المأهولة بالسكان، في "أري أتول"، والجزر المحيطة بها.
الاختلاط بهذا العالم البعيد عن السياحة، والمتصف بمحافظة دينية شديدة، والمقارنة طول الوقت مع ما كتبه ابن بطوطة عن الأرخبيل في القرن الرابع عشر، وتناول "الماس هوني" كل صباح (فطار من جوز الهند وسمك التونة) وحساء سمكة التونة "الغاروديا" كل مساء، يجعلك في مالديف أخرى، في همزة الوصل بين مالديف المالديفيين، ومالديف التجار والرحالين الظفاريين والحضارمة الذين أبحروا إليها وأقاموا فيها على امتداد القرون، وابن بطوطة من طنجة في المغرب الأقصى.

أبجدية من أرقام وأحرف

هذا الأرخبيل الواقع جنوب القارة الهندية، والذي يفصله عنها أرخبيل شبيه له إلى حد كبير، وهو أرخبيل اللاقشديب (أكثرية أبنائه مسلمون أيضاً، لكنه جزء من الهند)، هو أرخبيل طوّر شخصية جامعة لأبنائه منذ قرون طويلة.
ليست المالديف مجموعة منتجعات ولا "كياناً مصطنعاً". ربّما كانت أطول تجربة لكيان سياسي في أي بلد إسلامي.
اعتناق هذا الأرخبيل لدين الإسلام في القرن الثاني عشر الميلادي، بعد أن كان بوذياً، سمح له بالانفكاك عن هيمنة جارته الشمالية الشرقية، سيلان.
السلطنة الإسلامية قامت فيه من يومها، وتحولت إلى عقدة وصل أساسية في تجارة المحيط الهندي، الذي كان لفترة طويلة بمثابة المحيط الإسلامي بامتياز.
بالاضافة إلى رابطة الدين، أمنت رابطة اللغة "الديفيهية" تمايز الأرخبيل عن جارته، فرغم أن الديفيهية تنتمي إلى عائلة واحدة مع اللغة السنهالية في سري لانكا، إلا أنّ الكلمات العربية زادت فيها قرناً بعد قرن، ثم حدثت نقلة أخرى في القرن السادس عشر، باعتماد نظام كتابة ليس له مثيل في العالم، هو نظام "التانة"، أبجدية هي خليط من الأرقام الهندية العربية ومن الأحرف العربية وأحرف محلية.

المالديف أو "ذيبة المُهّل" و"محل ديب"

سيلان دعاها العرب "سرنديب"، أما المالديف فهي تحوير للإسم العربي "محل ديب". كذلك عرف العرب المالديف بإسم "ذيبة المهل". بهذا دعاها الرحالة الطنجي المغربي ابن بطوطة الذي لم يكتف فقط "بزيارتها"، بل أقام فيها كقاضي شرع مدّة عام ونصف العام، وتزوّج من نسائها.
يصفها بأنها "إحدى عجائب الدنيا وهي نحو ألفي جزيرة ويكون منها مائة فما دونها مجتمعات مستديرة كالحلقة لها مدخل كالباب لا تدخل المراكب إلا منه". وهو هنا يتحدّث عن قسمة الأرخبيل إلى مجموعة "آتولات" مرجانية. أي أنّه وبفعل تراكم الشعاب المرجانية تتكون حلقات كبيرة تجمع كل واحدة منها مجموعة من الجزر، في شكل بحيرة شاطئية مياهها أقل ملوحة من مياه المحيط.
وإذا كان ابن بطوطة يتحدّث عن مائة "آتول"، جامعاً المالديف واللاكشديف، فإنّها أقل من ذلك. ومن الناحية الإدارية الصرف، تتشكّل الجمهورية اليوم من عشرين آتولاً (22 من الناحية الطبيعية، زائداً جزر وشعب مرجانية "بالمفرق").
حل ابن بطوطة بالأرخبيل في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وقد أبحر إليه من ساحل المالابار. وصف أهل هذه الجزر بأنهم "أهل صلاح وديانة وإيمان صحيح ونية صادقة أكلهم حلال ودعاؤهم مجاب. وإذا رأى الإنسان أحدهم قال له: الله ربي ومحمد نبيي وأنا أمي مسكين". الأهم: "لا عهد لهم بالقتال والمحاربة، وسلاحهم الدعاء".
وكقاضي شرع يذكر ابن بطوطة في "تحفة النظار في غرائب الأمصار" أنه عندما أمر مرة بقطع يد سارق في المالديف "غشي على جماعة منهم كانوا بالمجلس". كذلك يذكر ابن بطوطة أنه عمل في المالديف على "المطاوعة": "ثم اشتددت في إقامة الصلوات وأمرت الرجال بالمبادرة إلى الأزقة والأسواق، إثر صلاة الجمعة، فمن وجدوه لم يصل، ضربته وشهرته".

ابن بطوطة ونساء المالديف

ومن عجائب جزر "ذيبة المهل" عند ابن بطوطة أن "سلطانتها امرأة" في فترة إقامته، وأنّ الأوامر تنفذ باسمها وتكتب في سعف النخيل، وأن خطيب يوم الجمعة يقول "اللهم انصر أمتك التي اخترتها على علم على العالمين، وجعلتها رحمة لكافة المسلمين.
أما عموم نساء الأرخبيل، بحسب ابن بطوطة، فـ"لا يغطين رؤوسهن، ولا سلطانتهم تغطي رأسها. ويمشطن شعورهن ويجمعنها إلى جهة واحدة، ولا يلبس أكثرهن إلا فوطة واحدة تسترها من السرة إلى أسفل، وسائر أجسادهن مكشوفة، وكذلك يمشين في الأسواق وغيرها".
وسعى الرحالة - القاضي المغربي إلى تبديل ذلك... عبثاً: "لقد جهدت لما وليت القضاء بها أن أقطع تلك العادة وآمرهن باللباس فلم أستطع ذلك. وكانت لا تدخل إلي منهن إمرأة في خصومة إلا مستترة الجسد، وما عدا ذلك لم تكن لي عليهن قدرة". لو أتيحت لإبن بطوطة العودة اليوم إلى جزر الأرخبيل لبدا المشهد مختلفاً تماماً: كتبت الغلبة في العقود الأخيرة للنقاب والتشادور.



aa
لم تكن نية ابن بطوطة في البدء المكوث مطولاً في الأرخبيل، إلا أنّ شهرته كقاضٍ مالكي عمل في دهلي (العاصمة الهندية دلهي) جعلت السلطنة المالديفية التي كانت على المذهب المالكي في ذلك الوقت تتمسّك به، وتزوّجه من بنات أكابر القوم فيها، قبل أن تثير علو مكانته الريبة في الطبقة الحاكمة فيضطر إلى ترك المالديف، وله ابن فيها، مبحراً صوب سرنديب (سيلان).
يقول إن الزواج "بهذه الجزائر سهل لنزارة الصداق وحسن معاشرة النساء. وأكثر الناس لا يسمي صداقاً، إنما تقع الشهادة ويعطى صداق مثلها. وإذا قدمت المراكب تزوج أهلها النساء، فإذا أرادوا السفر طلقوهن، وذلك نوع من نكاح المتعة".
وكما يصور لنا ابن بطوطة اعتماد هذه الجزر على أشجار "النارجيل" (جوز الهند) التي تصنع منها حليبها، وعسلها، وزيتها، وتصنع من ليفها الحبال والمراكب، فإنّه يتوقف ملياً عند مركزية سمك التونة في حياة أهلها "يسمونه قلب الماس ولحمه أحمر ولا زفر له". ويتابع: "للسمك الذي يتغذون به قوة عجيبة في الباءة (الجنس) لا نظير لها. ولأهل هذه الجزائر عجب في ذلك. ولقد كان لي بها أربع نسوة وجوار سواهن فكنت أطوف على جميعهن كل يوم وأبيت عند من تكون ليلتها. وأقمت بها سنة ونصف أخرى على ذلك".

الرعاية السعودية للتحول الوهابي في المالديف

المالديفيون أمة مسلمة مئة بالمئة. دستورها لا يجيز أساساً ما هو خلاف ذلك. تسقط الجنسية عنك فيها بمجرّد تغيير دينك. هو إسلام سني شافعي، بعد أن كانت السلطنة المالديفية في القرون الأولى على مذهب الإمام مالك، وهو ما ارتبط أساساً بالداعية أبو البركات البربري المغربي الذي أدخل الإسلام إليها في القرن الثاني عشر الميلاد، والذي يستعيد ابن بطوطة كراماته وأحواله في كتابه.
لا يلغي هذا سردية أخرى، يعتبرها عدد من المؤرخين أكثر أرجحية، تفسر الإسم المنقوش بلا نقاط على قبر البربري في عاصمة المالديف ماليه، على أنّه "التبريزي" وليس البربري، وتنسب دخول الإسلام فيها إلى داعية شيعي هو يوسف البربري، وهذا ما يثير حفيظة رجال الدين في الأرخبيل إلى اليوم، فيتوجسون كلما سمعوا شائعة عن تسلّل التشيّع إلى بلادهم، من طريق الهند.
تلتزم المالديف بالشريعة الإسلامية، بما في ذلك في الحدود والمواريث، ما عدا الرجم وقطع اليد. الجزر المأهولة بالسكان تحكمها عملياً المحاكم الشرعية.

           

واحدة من أهم السبل للارتقاء الاجتماعي في هذه الجزر البعيدة عن العاصمة هي التمكن من السفر إلى السعودية، والعودة منها بشهادة رجل دين للافتاء والقضاء.
طموحات الشباب المالديفي التعليمية هي هكذا: من أراد الطب أو الهندسة يسافر إلى سري لانكا وأوستراليا، ومن أراد علوم الدين يسافر إلى السعودية. أثّر هذا على المذهب الشافعي في الأرخبيل، بحيث ازداد تأثراً بالوهابية السعودية.
في الأعوام الثلاثين الأخيرة يمكن القول إنّه جرى "اجتثاث" التصوّف بشكل واسع، وهدم عدد كبير من الصوامع المقامة على أضرحة الأولياء في عرض المحيط الهندي. لم يعد فيها ما بقي على السواحل السري لانكية من تكايا صوفية. مع ذلك، بقيت أقراص "الماندالا" البوذية في الأصل تزيّن المساجد القديمة. هذا قبل أن تباشر السعودية عملية بناء مساجد جديدة على نحو واسع، وبنمط معماري مختلف تماماً عن التراث المعماري للمالديف.

المعارضة المالديفية وقطر

لعب التشدّد الديني دوراً كبيراً في الإطاحة بأول رئيس منتخب ديموقراطياً محمد نشيد، هذا الناشط الحقوقي والبيئي الذي طالب، احتجاجاً على الاحتباس الحراري، بوطن بديل للمالديفيين في حال غرق الأرخبيل.
أطيح به عام 2012 ثم أعتقل بتهمة الإرهاب ورافعت عنه المحامية أمل علم الدين كلوني، ورحّل بعدها إلى لندن.
حكم بعده عبد الله يمين عبد القيوم، الأخ غير شقيق لمأمون عبد القيوم، الذي حكم المالديف ثلاثين عاماً (1978-2008). كثرة الانتقادات البريطانية لسجل حقوق الانسان في الأرخبيل أدت إلى انسحابه في خريف العام الماضي من رابطة "الكومنولث" وطرح احتمال الانضمام إلى "جامعة الدول العربية"!

للمتسائلين عن المالديف وعلاقاتها بأزمة الخليج، الحكم الحالي فيها موالٍ للرياض أما المعارضة فلها صلات قوية بقطر


          
الحكم الحالي في المالديف موالٍ للرياض، أما المعارضة التي يقودها نشيد فلها صلات قوية بقطر، وهذا يجد تعبيره بتغطية إعلامية له، وقد قابلت المعارضة المالديفية التي يقودها "الحزب الديموقراطي" قرار قطع العلاقات مع الدوحة بحملة مندّدة بتداعيات ذلك على السياحة، ما دفع الحكم إلى اعتبار العلاقات التجارية والسياحية مستمرة مع القطريين رغم القطيعة.
والعلاقة مع السعودية هي اقتصادية ومالية لكن الجانب الديني فيها، المتصل بتشكّل طبقة من رجال الدين المالديفيين "الوهابيين"، هو جانب أساسي.
بالنسبة للحكم، هذه أيضاً وسيلة لضبط عملية التشدد الديني، الذي أخذ يتصادم مع القطاع السياحي، ويصل أحياناً للمطالبة بإنهاء هذا القطاع بالكامل، أو تحريم الخمرة (الممنوعة أساساً في الجزر المأهولة) حتى في المنتجعات.
دفع التشدّد بالآلاف عام 2012 لاقتحام المتحف الوطني وتدمير تمثال بوذا فيه بحجة أنه صنم يعبد، كما يدفع التطرّف اليوم مئات المالديفيين للالتحاق بتنظيم "الدولة الإسلامية" والقتال في سوريا.
الصورة مختلفة إذاً عما كتبه ابن بطوطة، عن قوم لا عهد لهم بالقتال، وعن نساء سافرات. وما أراده الرحالة-القاضي للأرخبيل حصل.
هل اعجبك هذا الموضوع ؟

لا يوجد تعليقات حتى الأن

إرسال تعليق